ثم يذكر الشاطبي رحمه الله الأمر الثاني الذي على الناظر في الشريعة أن ينتبه له، لأنه من أسباب الضلال والابتداع، وهذا هو المهم لدينا؛ لأننا نبحث في موضوع النهي عن المجادلة في القرآن، فيقول عنه: "وأما الأمر الثاني: فإن قوماً أغفلوه أيضاً، ولم يمعنوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة؛ فأحالوا بالاختلاف عليها تحسيناً للظنّ بالنظر الأول، وهذا هو الذي عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال الخوارج ؛ حيث قال: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم} فوصفهم بعدم الفهم للقرآن، وعند ذلك خرجوا عن أهل الإسلام؛ إذ قالوا: لا حكم إلا لله، وقد حكم الرجال في دين الله -يعنون علياً رضي الله عنه- حتى بين لهم حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما معنى قوله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))[الأنعام:57] على وجه أذعن بسببه منهم ألفان، أو من رجع منهم إلى الحق، وتمادى الباقون على ما كانوا عليه؛ اعتماداً -والله أعلم- على قول من قال منهم: لا تناظروه ولا تخاصموه؛ فإنه من الذين قال الله فيهم: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:58]".
قالت الخوارج: إن ابن عباس هذا هو من قريش، والله تعالى ذكر في القرآن عنهم أنهم قوم خصمون، فقال: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:58] قالوا: هذا وصف لقريش، وعبد الله بن عباس من قريش.
وما درى هؤلاء الخوارج أن الذين أنزل فيهم قول الله تعالى: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:58] هم الذين خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم بشأن عيسى بن مريم عليه السلام، وقالوا: ((أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ))[الزخرف:58].
فاستدلوا بذلك على بطلان كلام ابن عباس، وهو قد استدل عليهم من القرآن والسنة بأن قولهم باطل.